الشعر من أروع ما أبدعه الفکر الجمالی لدی الإنسان. وهو من الوسائل المهمّة لتخلید الأفکار، والأحداث، والقیم، ویعدّ أهمّ عامل لبثّ الأفکار والتعالیم.
الشعر یهیّج العواطف، ویثیر دفائن العقول. وقد تولّد القصائد المطوّلة والمقطوعات الشعریّة حماسةً و هیاجاً و جلبةً فی المجتمع الإنسانی.
وکان الشعراء- علی مرّ التاریخ- أهمّ المنادین بالقیم، والموسّعین لنطاق الأفکار، و الموجّهین للعواطف سواءً فیما یُحمد أم فیما یذمّ… وبهذه الرؤیة نظر أئمّة الدین إلی الشعر، وجدّوا فی دعوة الشعراء إلی الهدفیّة، والالتزام، والرویّة الرفیعة، والصمود والصلابة، والاستقامة وإلی مقارعة الرذائل والقبائح و ضروب الظلم وکلّ ما یشین، والثبات علی طریق بثّ القیم الإنسانیّة والدفاع عن الحقّ.
ومن المؤسف أن شهد التاریخ علی تواتر الأیّام استغلال المتسلّطین من أعداء
الفضیلة لهذا المظهر الجمیل للروح الإنسانیّة استغلالاً سیّئاً، فألجؤوا الشعراء إلی إنشاءالمدائح الذلیلة المذلّة الجارحة للعزّ والشمم، وسجّلوا بهذا إحدی الصفحات السوداء للأدب والثقافة البشریّة.
وقد قال رسولالله صلی الله علیه و آله- وهو نبیّ الحرّیة والکرامة الإنسانیّة-: «احثوا فی وجوه المدّاحین الترابٍّ».(1)
وقال أیضاً مبیّناً ما فی مدح الجبّارین و الأقویاء من شدید القبح والوضاعة والحقارة: «إذا مُدح الفاجر اهتزّ العرش و غضب الربّ».(2)
بید أنّه صلی الله علیه و آله کان من جهة اُخری یثنی علی الشاعر الذی ینشد فی الحقّ، و یرفع صوته بمکرمة إنسانیّة؛ و یدعو له، و یثمّن عمله، کما أثر عنه صلی الله علیه و آله لمّا سمع أبیاتاً من رائیّة النابغة الجعدی أنّه دعا له قائلاً: «لا یفضض الله فاک…».(3)
وکان هناک شعراء منذ قدیم الأیّام لم یطیقوا مدح الظلم والولاء له، ولم یَرُقْهم الثناء علی الظالمین، بل کانوا ینشدون ملاحم المجد والعظمة و البهاء، و یشیدون بالجمال والنور وصانعیه، وکان دأبهم التواضع لوهج شمس الحقیقة المتألّقة. و هکذا کان منهم من وقف أمام القمّة الشاهقة لشخصیّة مولی الموحّدین و أمیرالمؤمنین علیّ بن أبی طالب علیهالسلام، ومدحوا ذلک الطود الأشمّ، الفیّاض بالمکارم، الذی تستمدّ منه وجودها جمیع القیم الإنسانیّة الربّانیّة الرفیعة، وسطّروا فی کلماتهم معالی ذلک الإنسان العظیم، وشجاعته، وشهامته، واستبساله، وعشقه، وولهه فی الله تعالی، وقدّموها لجمیع الأجیال و الأعصار.
إنّ ما تطرّق إلیه الشعراء من أوصاف إمام المحقّین و دلیل الأبرار؛ من ضروب تعظیمه، و بیان أبعاد شخصیّته، ممّا یثیر الحماسة و الهیاج.
و من مظاهر هذا التعظیم والتبجیل ذکر واقعة «غدیرخمّ» العظیمة منذ لحظاتها الاُولی، إذ قام حسّان بن ثابت، و أنشد یقول:
ینادیهم یوم الغدیر نبیّهم
بخمٍّ، و أسمع بالرسول منادیا
و إلی یومنا هذا خلّد الشعراء ذلک «الإبلاغ» العظیم فی مئات القصائد و المقطوعات. ونذکر فی هذا الفصل غیضاً من فیض، و قطرةً من بحر ذلک الثناء و التعظیم، و المظاهر الرفیعة للإبداعات الفنّیة للاُدباء و الشعراء؛ الطافح شعرهم بالمشاعر الفیّاضة فی مدح مولی الموحّدین أمیرالمؤمنین علیهالسلام.
وتمتدّ هذه المدائح الثمینة من القرن الأوّل حتی قرننا هذا، مع تأکیدنا المتکرّر أنّ هذه المدائح مختارات علی قدر ما یفسح به المجال، و إلّا فمن الواضح أنّها لو جمعت لبلغت مجلّدات من الکتب.
1) الأمالی الصدوق: 512 / 707، بحارالأنوار: 73 / 294 / 1 و ج 76 / 331.
2) تحف العقول: 46، بحارالأنوار: 77 / 152 / 84.
3) الغیبة للطوسی: 119.